فصل: (فرع: ابتداء الطواف واستلام الحجر الأسود وتقبيله وما يقوله)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: ابتداء الطواف واستلام الحجر الأسود وتقبيله وما يقوله]

ويبتدئ بالطواف من الركن الذي فيه الحجر الأسود، فإن أتى من وجه الكعبة.. لم يكن طائفا حتى يمر بالحجر الأسود؛ لأن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابتدأ الطواف منه، وقال: «خذوا عني مناسككم» وفي محاذاته للحجر ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يحاذي جميع الحجر بجميع بدنه، بأن يقف على يمين الحجر مما يلي الشق اليماني، ثم يمر به مستقبلا له، وهذا هو الأكمل.
الثانية: أن يحاذي بجميع بدنه بعض الحجر إن أمكنه فيجزئه، ولكن لا يمكن؛ لأن جثة الإنسان أكبر من الحجر، فإن أمكنه.. أجزأه، كما إذا استقبل بجميع بدنه بعض البيت في الصلاة.. فإنه يجزئه.
الثالثة: أن يحاذي ببعض بدنه جميع الحجر، مثل: أن يقف حذاء وسط الحجر؛ فإن بعض بدنه يكون خارجا من الحجر.. فهل يجزئه هذا؟ فيه قولان:
(الأول): قال في القديم: (يجزئه): لأنه حكم يتعلق ببدنه، فاستوى فيه جملة البدن وبعضه كوقوع الحد على بعض البدن.
و(الثاني): قال في الجديد: (لا يجزئه)؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استقبل الحجر واستلمه» وظاهر هذا: أنه استقبله بجميع بدنه. ولأن ما وجب فيه محاذاة البيت.. وجب محاذاته بجميع البدن، كالاستقبال في الصلاة؛ فإنه لو استقبل الكعبة في الصلاة ببعض بدنه، بأن يقف بحذاء بعض الأركان.. فإنه لا يجزئه: لأن بعض بدنه يكون خارجا عن الكعبة.
فإذا قلنا بهذا: لم تجزه الطوفة الأولى، فإذا طاف الثانية.. احتسبت له أولى؛ لأنه يمر على الحجر بجميع بدنه.
فإن طاف وهو واضع يده على جدار الكعبة.. قال المسعودي [في "الإبانة" ق\ 203] فعلى القولين فيمن حاذى الحجر ببعض بدنه.
إذا ثبت هذا: فروى ابن عباس: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل الحجر وسجد عليه، ثم قبله وسجد عليه».
قال الشافعي: (وأحب للطائف أن يفعل ذلك إن أمكنه، فإن لم يمكنه ثلاثا.. فعل ما أمكنه منها، فإن لم يمكنه السجود أمكنه منها، فإن لم يمكنه السجود عليه.. اقتصر على التقبيل، وإن لم يمكنه التقبيل بأن يتأذى بغيره أو يؤذي غيره.. استلمه بيده)؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استلم الحجر الأسود».
وروى ابن عباس: «أن عمر ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - انكب على الحجر وقبله، وقال: أما إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت حبيبي رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبلك.. ما أقبلك). وقرأ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]» [الأحزاب: 21].
ويستحب أن يقبل يده؛ لما روي: «أن ابن عمر استلم الحجر الأسود وقبل يده، وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله».
وإنما خص الحجر الأسود بالتقبيل: لما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنه قال: سمعت رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «الحجر والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة، ولولا أن الله تعالى طمس نورهما.. لأضاءا ما بين المشرق والمغرب».
وروى ابن عباس: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يحشر الحجر الأسود يوم القيامة وله عينان ولسان يشهد لكل من استلمه بحق».
وروي عن ابن عباس: أنه قال: «نزل الحجر الأسود من الجنة أشد بياضا من الثلج، حتى سودته خطايا بني آدم». قال: فإن لم يمكنه الاستلام.. فإنه يشير إليه
بيده، ولا يشير بالقبلة؛ لأنه قد روي: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ازدحم الطواف.. استلم الركن بمحجن بيده». ولم يشر إليه بالقبلة.
وروي: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمر: «إنك رجل قوي، فلا تزاحم الناس على الركن، فتمنع الضعيف وتؤذي القوي، ولكن إن خلا لك.. فقبل، وإلا.. فكبر وامض».
قال النبي: و(الاستلام): مأخوذ من السلام، وهي الحجارة، فإذا مس الحجر بيده.. قيل: استلم، أي: مس السلام، وقيل: إنه مأخوذ من السلام "، أي: أنه يحيي نفسه عن الحجر، إذ ليس الحجر ممن يجيبه، يقال: اختدم: إذا لم يكن له خادم، وإنما خدم نفسه. وحكي عن ابن الأعرابي: أنه قال: هو مهموز ترك همزه، وهو مأخوذ من الملاءمة والموافقة، كما يقال: استلأم كذا استلئامًا: إذا رآه موافقا له وملائما.
ويستحب أن يقول عند ابتداء الطواف والاستلام: باسم الله، والله أكبر، اللهم إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعا لسنة نبيك محمد ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رواه عبد الله بن السائب عن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وروي مثل ذلك عن علي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وإن قرأ القرآن في الطواف.. كان حسنا؛ لما روي عن مجاهد: أنه كان يقرأ القرآن في الطواف.
وإن قال في طوافه: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. كان مستحبا؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من طاف بالبيت سبعا ولم يتكلم فيه إلا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. كتب له عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات».

.[فرع: يشترط الترتيب في الطواف ويستحب الدنو منه]

الترتيب شرط في الطواف، وهو: أن يجعل البيت على يساره، ويمشي على يمينه، فإن مشى على يساره.. لم يجزه. وبه قال مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (إذا مشى على يساره، فإن كان بمكة.. أعاد، وإن خرج إلى بلده.. أجزأه وعليه دم).
دليلنا: أن الله تعالى قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]. فأمر بالطواف مجملا.
وروى جابر وابن عباس: «أن النبي طاف مرتبا، فجعل البيت على يساره، ومشى على يمينه». وقال: «خذوا عني مناسككم» فكان فعله هذا بيانا لما ورد به القرآن مجملا.
وما روي: أن أحدا طاف على خلاف ذلك إلا محمد بن داود، فهموا بقتله لولا
أنه اختفى بمكة، وهذا يدل على شهرته. ولأنه عبادة تفتقر إلى البيت، فكان الترتيب فيها مستحقا، كالصلاة: ويستحب أن يدنو من البيت؛ لأنه هو المقصود، فكان الدنو منه أفضل، فإن كان هناك زحمة.. لم يستحب له أن يزاحم للدنو من البيت؛ لأنه يؤذي الناس بذلك، فإن تباعد من البيت وطاف ملاصقا لجدار المسجد.. جاز. وإن طاف خارجا من المسجد.. لم يجزه؛ لأن حائط المسجد حائل بينه وبين الكعبة

.[فرع: ما يستحب استلامه من الأركان وما يفعله]

فإذا بلغ إلى الركن اليماني.. استلمه بيده وقبل يده ولا يقبله، هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في "الإبانة" ق \ 204] في كيفية استلام اليماني وتقبيله وجهان:
أحدهما: يقبل يده أولا، ثم يضعها عليه، كأنه ينقل القبلة إليه.
والثاني: يضع يده على الركن ثم يقبلها، فكأنه ينقل بركته إلى نفسه.
وقال مالك: (يستلمه ولا يقبل يده، ولكن يضعها على فيه).
وقال أحمد: (يقبله).
وقال أبو حنيفة: (لا يستلمه، ولا يقبل يده).
دليلنا ـ على استلامه ـ: ما روى ابن عمر: «أن: النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستلم الحجر الأسود والركن اليماني في كل طوفة، ولا يستلم الآخرين».
وأما تقبيل اليد: فروي عن ابن عمر، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري: (أنهم كانوا يتسلمون الركن اليماني ويقبلون أيديهم)، ولا مخالف لهم. ولأنه ركن بني على قواعد إبراهيم، فسن فيه الاستلام، كالأسود.
وأما الركن العراقي والشامي ـ وهما اللذان يليان الحجر ـ: فلا يستلمان ـ عندنا ـ وروي ذلك عن عمر وابن عمر ومعاوية.
وروي عن جابر وابن الزبير وأنس وابن عباس: (أنهم كانوا يستلمون الأركان الأربعة).
وروي «عن ابن عباس أو ابن الزبير: أنه استلم الأركان الأربعة، فقال له معاوية:
ما كان رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستلم إلا الركنين اليمانيين، فقال ليس في البيت شيء مهجور».
دليلنا: حديث ابن عمر قال الشافعي: (ليس ترك استلامهما هجرانا لهما؛ لأن الطواف يقع بهما، ألا ترى أن جدران البيت لا تستلم، ولا يقال في ذلك. هجران جدرانه).
إذا ثبت هذا: فيستحب للطائف كلما حاذى الحجر الأسود أن يكبر، ويستحب له أن يستلم الركنين في كل طوفة؛ لحديث ابن عمر: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستلمهما في كل طوفة».
وروى ابن عباس: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يطوف على راحلته، فكلما أتى على الركنين: الأسود واليماني.. أشار بشيء في يده وكبر وقبله».
قال الشافعي: (فإن لم يمكنه الاستلام في كل طوفة.. فالمستحب: أن يستلمهما في كل وتر، وهو الأول والثالث والخامس والسابع؛ لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله وتر يحب الوتر».
ويستحب أن يدعو بين الركن اليماني والركن الأسود؛ لما روي عن ابن عباس: «أنه قال: (عند الركن اليماني ملك قائم يقول: آمين آمين، فإذا مررتم به.. فقولوا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]).

.[مسألة:مشروعية الرمل والاضطباع وما يقوله]

الرمل هيئة في الطواف، فيستحب لمن طاف الطواف الأول في النسك أن يرمل في الثلاثة الأولى، ويمشي في الأربعة.
قال الشافعي: (والرمل: سرعة المشي مع تقارب الخطو، ولا أحب أن يثب من الأرض)، والدليل على ذلك: ما روي: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دخل مكة هو وأصحابه، قالت قريش: إن حمى يثرب قد نهكتهم، فجلسوا في الحجر لينظروا طوافهم، فرمل رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الثلاثة الأولى، وأمر أصحابنا بذلك " فلما رأوهم قالوا: ما نراهم إلا مثل الغزلان».
قال المسعودي [في " الإبانة، ق \ 204واختلفت الرواية في موضع الرمل:
فروى ابن عمر: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمل من الحجر إلى الحجر» يعني: حول جميع الكعبة.
وروى ابن عباس: «أنه رمل من الحجر الأسود إلى اليماني، ومشى بين الركنين» لأنه كان يقصد إظهار الجلد للمشركين وهم لا يرونه في ذلك الموضع؛ إذ كانوا في الحجر. وقد حكى ابن الصباغ هذه الرواية عن ابن عباس.
فإن قيل: فإنما أمر النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالاضطباع والرمل؛ ليري المشركين القوة وقد زال هذا المعنى.
فالجواب: أنه روي: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمل في عمرة الجعرانة» وذلك بعد الفتح، وكذلك رمل في حجته بعد الفتح، فثبت أنه سنة.
فان قيل: فإن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف راكبا فكيف يصح هذا؟
قلنا: إنما طاف النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راكبا في طواف الإفاضة، وطاف ماشيا في طواف القدوم، وسعى بعده، فرمل فيهما.
فإن طاف راكبا أو محمولا.. ففيه وجهان، حكاهما في "الإبانة" [ق\204]:
أحدهما: يحرك دابته في موضع الرمل، ويرمل به الحامل؛ لأنه هيئة في الطواف.
والثاني: لا يرمل؛ لأنه يؤذي الناس بذلك.
وأما الشيخ أبو حامد: فحكى في رمل الحامل قولين:
الأول: قال في الجديد: (يرمل).
والثاني: قال في القديم: (لا يرمل).
فإن أمكن الطائف الدنو من البيت والرمل.. فعل ذلك. وإن لم يمكنه أن يرمل في طوافه بقرب البيت من زحمة الناس... نظرت: فإن كان إذا وقف ساعة وجد فرجة يرمل بقرب البيت.. وقف ساعة ليقرب من البيت ويرمل، وإن لم يرج بوقوفه إدراك فرجة أو خفة الزحمة.. لم يقف، بل يخرج إلى حاشية الطواف، فيرمل؛ لأن الرمل هيئة في الطواف، والدنو من البيت فضيلة في الطواف، فكان مراعاة الهيئة أولى من مراعاة الفضيلة.
فإن كان بحاشية الطواف نساء إذا خرج اختلط بهن.. لم يخرج لئلا يختلط بالنساء؛ لأنه يخاف عليه الافتتان بهن، ولكنه يطوف ويقرب من البيت، ويحرك نفسه أكثر ما يقدر عليه.
وإن ترك الرمل في الثلاثة الأولى.. لم يقضه في الأربعة؛ لأنه هيئة، فإذا فات محله.. لم يقض، كالجهر في الركعتين الأولتين، ولأن السنة أن يمشي في الأربعة، فإذا رمل فيها.. خالف السنة من وجهين:
ويستحب أن يقول في رمله: اللهم اجعله حجا مبرورا، وذنبا مغفورا، وسعيا مشكورا. ويقول في مشيه: اللهم اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم؛ إنك أنت الأعز الأكرم، اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار؛ لما روى السائب بن يزيد: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ذلك في طوافه. ويدعو بما أحب من أمر الدين والدنيا.
فإذا طاف للقدوم وسعى بعده، فاضطبع ورمل فيهما.. فقد سقط فرض السعي عنه، ولا يعيد الاضطباع والرَّمَل في طواف الزيارة، لما روى ابن عمر: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا طاف الطواف الأول.. خب ثلاثا، ومشى أربعا» فدل على: أنه لم يفعله إلا في الأول.
وإن طاف للقدوم فاضطبع ورمل فيه، ولكن لم يسع بعده.. فإنه يضطبع ويرمل في طواف الزيارة؛ لأنه يحتاج إلى الاضطباع والرّمل في السعي، ولا يمكنه أن يفعل ذلك في السعي دون الطواف؛ لأن السعي تابع للطواف، فلا يكون التابع أكمل من المتبوع.
وإن طاف للقدوم وسعى بعده، ولم يضطبع ولم يرمل فيهما.. فهل يضطبع ويرمل في طواف الزيارة؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: يضطبع ويرمل فيه ـ ولم يذكر الشيخ أبو حامد في "التعليق" غيره- لئلا تفوته سنة الاضطباع والرمل.
والثاني: لا يضطبع ولا يرمل في طواف الزيارة، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق، كما إذا ترك ذلك في الثلاثة الأولى.. فإنه لا يفعله في الأربعة بعدها.

.[فرع: الرمل والاضطباع للمرأة وترك الهيئات للرجل]

ولا تضطبع المرأة ولا ترمل؛ لأن معنى ذلك: هو إظهار الجلد، والجلد في أصله لا يوجد فيهن، ولأن ذلك يقدح في سترهن.
قال القاضي: وكذلك الخنثى لا يفعل ذلك كالمرأة.
وإن ترك الرجل الاضطباع والرمل والاستلام والتقبيل والدعاء في الطواف.. جاز، ولا يلزمه بذلك شيء.. وبه قال عامة الفقهاء.
وقال الحسن البصري، والثوري، وعبد الملك الماجشون: يجب عليه الدم.
دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: (ليس على من ترك الرمل شيء) ولا يقول ذلك إلا توقيفا. ولأن ذلك هيئة، فلم يجب عليه شيء بتركه، كوضع اليمين على الشمال في الصلاة.

.[فرع: الشرب في الطواف وكراهة تغطية الفم]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا بأس بشرب الماء في الطواف، ولا أكرهه بمعنى المأثم، لكني أحب تركه؛ لأن ذلك حسن في الأدب).
وروي: أن ابن عباس: (كان يطوف فاستدعى ماء، فشربه في الطواف).
قال الشيخ أبو حامد: وروي من وجه لا يثبت: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرب الماء في الطواف».
قال ابن الصباغ: ويكره لمن طاف بالبيت أن يضع يده على فيه في الطواف؛ لأن الطواف بالبيت صلاة، وذلك يكره في الصلاة.

.[مسألة:الطواف بلباس محرم وقطعه للصلاة]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الإملاء ": (وإذا طاف المحرم وعليه ثوب لا يحل للمحرم لبسه.. صح طوافه، وكان عليه الفدية)؛ لأن تحريم اللبس لا يختص بالطواف، وإنما يتعلق بالإحرام، فلم يمنع صحة الطواف.
قال الشيخ أبو حامد: وإذا كان على الإنسان طواف واجب فطاف بنية النفل.. كان ذلك عن الواجب عليه؛ لأن الطواف أحد أركان الحج، فإذا فعل من جنسه بنية النفل وعليه فرضه.. كان عن فرضه، كالإحرام بالحج.
قال الشافعي: (وإن دخل في الطواف، ثم أقيمت الصلاة.. خرج وصلى، وبنى على طوافه؛ لأن الجماعة تفوت والطواف لا يفوت، فكان الجمع بينهما أولى). قال: (وأكره له أن يخرج من الطواف أو السعي إلى صلاة الجنازة إلا أن تكون الجنازة على طريقه، فيصلي عليها من غير أن يعرج إليها، ولو خرج إليها.. لم يكن عليه الاستئناف، بل يبني على ما مضى).

.[مسألة:صلاة ركعتي الطواف]

فإذا فرغ من الطواف.. صلى ركعتين، وهل هما واجبتان أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنهما تجبان، وبه قال أبو حنيفة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
وروى جابر: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف راكبا، ثم نزل فصلى ركعتين خلف المقام» فلو كانتا مستحبتين.. لصلاهما رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الراحلة.
والثاني: أنهما سنة ـ وهو قول مالك ـ لما روى طلحة بن عبيد الله في «حديث الأعرابي الذي سأل النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الإسلام، فقال ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس صلوات في اليوم والليلة ". فقال: هل علي غيرها؟ فقال: (لا، إلا أن تطوع». ولأنها صلاة ذات ركوع وليس لها وقت راتب، فلم تكن واجبة بأصل الشرع، كصلاة الخسوف.
فقولنا: (ذات ركوع) احتراز من صلاة الجنازة.
وقولنا: (ليس لها وقت راتب) احتراز من سائر الصلوات المفروضات.
وقولنا: (بأصل الشرع) احتراز من النذر.
ومن قال بهذا.. قال: ليس في الآية ما يدل على إيجاب ركعتي المقام، وإنما أمرنا بأن نتخذ من المقام مصلى. وأما صلاة النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الأرض: فلأن صلاة النافلة على الأرض أفضل.
فإذا قلنا: إنهما سنة.. جاز أن يصليهما قاعدا من غير عذر
وإذا قلنا: إنهما واجبتان.. فهل يجوز أن يصليهما قاعدا من غير عذر؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري:
أحدهما: لا يجوز، كالصلاة الواجبة.
والثاني: يجزئ، كالطواف راكبا.
واختلف أصحابنا في موضع القولين: فمنهم من قال: القولان في طواف الفرض، في فأما طواف القدوم: فلا يجبان فيه قولا واحدا؛ لأن طواف القدوم نفسه لا يجب، فكذلك ما يتبعه.
ومنهم من قال: القولان في الجميع، وهو الصحيح، بمعنى أنه: لا يحكم له بصحة الطواف حتى يأتي بالركعتين؛ لأن النفل يجوز أن يشترط في صحته ما هو فرض، كالطهارة والستارة والقراءة والركوع والسجود.
فإن صلى بعد الطواف صلاة فرض، فإن قلنا: إن ركعتي الطواف سنة.. أجزأه ذلك عنهما، كما إذا صلى الفرض عند دخول المسجد.. فإنها تجزئ عن تحية المسجد، وقد روي عن ابن عباس: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من طاف بالبيت أسبوعا، ثم وافق صلاة مكتوبة.. أجزأته عن ركعتي الطواف». وروي عن ابن عمر: أنه فعل ذلك، ولا مخالف له. وهذا يدل على استحبابهما.
وإن قلنا: إنهما واجبتان.. لم تقم الفريضة مقامهما؛ لأنهما فريضة، فلا تدخلان في غيرهما، كسائر الفرائض.

.[فرع: الجمع بين أسابيع الطواف]

قال الشيخ أبو نصر: لا يكره أن يجمع بين أسابيع من الطواف، ثم يركع لكل واحد منها. وروي ذلك عن عائشة والمسور بن مخرمة.
وقال الحسن، والزهري، وعروة، ومالك، وأبو حنيفة: (يكره ذلك)، وروي ذلك: عن ابن عمر.
دليلنا: ما روى السائب بن يزيد عن أمه: أنها قالت: (طفت مع عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ثلاثة أسابيع، ثم دخلت الحجر فصلت ست ركعات).
قال الصيمري: إذا طاف أسابيع متصلة، ثم صلى ركعتين.. جاز.
قلت: ويحتمل أنه أراد إذا قلنا: إنهما سنة.

.[فرع: صلاة ركعتي الطواف عن الصبي]

وموضعها والرجوع بدونهاإذا طاف بصبي لا يعقل، وصلى ركعتين.. فهل تقعان عن الصبي؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول ابن القاص ـ: أنهما تقعان عن الصبي؛ لأنهما تبع للطواف، ولما دخلت النيابة في الطواف.. دخلت في تبعه.
والثاني: تقعان عن الحامل؛ لأنه لا مدخل للنيابة في الصلاة بحال.
وقد قال مالك: (لا يجوز أن يصلي عن الصبي).
دليلنا: ما ذكرناه للوجه الأول.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإن المستحب: أن يصليهما خلف المقام، ويقرأ في الأولى بعد الفاتحة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، وفي الثانية بعد الفاتحة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فرغ من الطواف.. نزل، فصلى خلف المقام ركعتين، فقرأ في الأولى منهما: بفاتحة الكتاب وقل يا أيها الكافرون، وفي الثانية: فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد».
فإن صلاهما في غيره من المواضع.. جاز. وقال مالك والثوري: (إن لم يصلهما خلف المقام.. لم يجزه، وعليه دم).
دليلنا: أنها صلاة، فلم تختص بمكان، كسائر الصلوات.
فإن لم يصلهما حتى رجع إلى بلده.. قال الشافعي: (صلاهما، وأراق دما).
قال أصحابنا: إراقة الدم مستحبة لا واجبة.